في الأدب التربوي ـ كغيره من الدراسات الإنسانية ـ يبدو نموذجان:
النموذج الأول: الذي يُعنى بالتناول النظري للقضايا التربوية، ويسود هذا النموذج في الأغلب لدى الأكاديميين والمهتمين بالدراسات العلمية.
والنموذج الثاني: الذي يُعنى بالتطبيقات والأمثلة الواقعية، ويسود في الأغلب لدى من يتحدثون للعامة من خلال وسائل الإعلام أو الندوات والمحاضرات التثقيفية.
ويلقى النموذج الثاني ترحيباً وإقبالاً واسعاً من كثير من المستمعين والمتابعين؛ فالمستمع يميل في الغالب إلى الجانب التطبيقي المحدد؛ فهو حين يستمع لمحاضرة ينتظر مَنْ يُحدِّثه من خلال خطوات محددة: افعل كذا، لا تفعل كذا؛ ومن هنا تلقى المادةُ التي تُعنى بالجانب التطبيقي رواجاً وإقبـالاً أكثر؛ إذ هي تتـصل بالواقـع العـملي للمـتلـقـين، ولا تحتاج منهم أي جهد في استيعابها أو تحويلها إلى نموذج تطبيقي.
ويردد الجمهور كثيراً: مللنا من التنظير، دعونا من التنظير، نحن بحاجة إلى حلول وبرامج عملية(1).
إن هذه المطالبة تحمل قدراً عالياً من المنطقية؛ فكثير مما يقدمه المختصون والأكاديميون لا يزال بعيداً عن معايشة الواقع العملي واحتياجات الجمهور، واللغة العلمية. والمنطق البحثي لا يعني المتابع غير المتخصص؛ فهو ليس بحاجة للحديـث معه حول تطور النظريات التي تفسر ظاهرة ما، ولا للدراسات والتجارب العلمية التي قادت إليها.
لكن حين ننظر إلى أن العملية التربوية عملية معقدة، وأنها تتطلب بناء شخصية المتربي بناء متكاملاً، وإعداده ليكون فاعلاً في الحياة، فهل يمكن أن يتحقق ذلك من خلال وصفات تطبيقية محددة أو (كتالوجات) كما يقال؟
يتفاعل المربي حين نحدثه: ماذا تفعل إذا كان طفلك يكذب؟ إذا كان يخجل؟ كيف تتعامل مع عناد المراهق؟
لكن المربي يحتاج إلى إطار معرفي يوجه أداءه التربوي، وإلى أن يعرف خصائص المتربين المرتبطة بمراحلهم العمرية، وأن يعرف احتياجاتهم ومشكلاتهم، وأن يعرف أسس التعلم، وأن يمتلك رؤية كلية للموقف التربوي، وما الصورة التي يريد أن يصل إليها، وكيف يتحقق ذلك؟
كما أن الإصرار على النموذج الثاني قاد ويقود إلى أن يتصدى لتناول القضايا التربوية فئة ممن يحملون حرصاً واهتماماً وشعوراً بأهمية التربية؛ لكنهم لا يملكون المعرفة التربوية المتخصصة؛ فيقدمون أفكاراً جميلة وواقعية ومنتجة؛ لكنهم لا يقدمون رؤية ناضجة متكاملة للموقف التربوي، ويقعون في أخطاء منهجية وعلمية.
وفي ضوء ما سبق يمكن القول إننا نحتاج إلى ما يلي:
[] بناء رؤية تربوية وإطار معرفي ملائم للمربين.
[] الاعتـناء بتـقديم المعرفة التربوية المتخصصة للمربين ـ بكافة فئاتهم ـ بما يلائمهم في لغتها وفي عمقها.
[] الاعتناء بتقديم نماذج وأساليب تطبيقية وعملية.
[] التعاون والتواصل بين المختصين بالتربية، والمهتمين بالجوانب التطبيقية من غير المختصين والخروج بمشروعات وبرامج مشتركة.
أما نقل المعرفة التربوية بلغتها الأكاديمية وعمقها لعامة المربين، أو الاكتفاء بتقديم النماذج التطبيقية دون بناء المعرفة التربوية فلن يحقق ما نطمح إليه.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) رغم كثرة ترداد هذه المقولة إلا أن البناء المعرفي التربوي لمن يرددونها هو في الأغلب ضعيف جداً ولا يتلاءم مع ما ينتظر منهم من أداء تربوي.